الجمعة، 10 شوال 1445 ، 19 أبريل 2024

أعلن معنا

اتصل بنا

الكتابة للموجوعين

أ أ
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook

(عزيزي، أنا على يقين بأنني سأُجن، ولا أظن بأنني سأتعافى هذه المرة؛ لذا سأفعل ما أراه مناسباً، لقد عادت تلك الأصوات.. لست قادرة على المقاومة بعد الآن وأعلم أنني أفسد حياتك، أترى، لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد، لا أستطيع أن أقرأ.. ).

اضافة اعلان

كانت الأصوات الغريبة قد عاودت الصراخ في أذنها ورغم محاولتها السيطرة على يدها المرتعشة ورغم كل الوجع الذي يعصف بجسدها المنهك إلا أنها قررت أن لا تستسلم وبذلت قصارى جهدها في ترتيب الأحرف على الورقة - كمُحارب يعرف يقينا أنه يخوض معركته الأخيرة-، فقد كانت كاتبة القرن العشرين والأديبة الإنجليزية الشهيرة فيرجينيا وولف في هذه اللحظة تصوغ (رسالة انتحارها) لزوجها الكاتب ليونارد وولف، واشتهرت تلك القصاصة في أنحاء العالم بعد أن ارتدت كاتبتها معطفها الأنيق وملأت جيوبه بالحجارة، وخرجت قاصدة النهر القريب من منزلها، لا لتتجول، ولا لتسترخي، بل لتنتحر!

فيرجينيا كاتبة ابتكرت لغة سردية ترتكز على (تيار الوعي) و(إيقاظ الضمير) وبات تاريخ الرواية يؤرخ بـ(ما قبل) فيرجينيا و(ما بعد) فيرجينيا، لكن نهاية هذه الكاتبة الموهوبة لم تكن بالحسبان! فقد غرقت فيرجينيا قبل أن تتم عامها الستين وجابت رسالتها الدامية الآفاق لتصبح مادة لبرامج مرئية وكتب وصحف وأفلام درامية عالمية لازالت مستمرة وحية بحياة أحرف صاحبتها.

حينما تتأمل حياة هذه الكاتبة تجدها مليئة بالآلام –إذا ما استثنينا زوجها الحنون -، فمن موت والدها واغتصاب أخيها لها وموت أصدقائها واحتراق منزلها وفشل بعض مؤلفاتها وعدم حصولها على أي جائزة طوال حياتها وغيرها من مبررات الاكتئاب الأخرى لكنها واجهت ذلك بشجاعة لقرابة 59 عاماً إلى أن حانت ساعة الصفر، ولو تأملنا رسالتها الأخيرة سنجد ما يمكن أن نعتبره شفرة التجلد: (أترى، لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد، لا أستطيع أن أقرأ)، نعم كانت تورد هذه العبارة في سياق إثبات أن عجزها عن مواصلة الحياة وقرب النهاية، فهي بالإضافة لكل آلامها -التي تعصف بها- لا تستطيع أن تقرأ ولا أن تكتب!

أن يكون العجز عن الكتابة والقراءة سبب تعاسة يعني أنها في يوم ما كانت سبب سعادة، وهذا ما تحدثت عنه بعض الكتابات التي أشارت إلى أن زوج فيرجينيا الحنون – وهو كاتب اقتصادي- استطاع أن يوظف شغفها بالكتابة كأسلوب للتداوي؛ ما جعلها تواجه الكثير من الآلام في حياتها وتتجاوز ماضيها، ومن ذلك مقالها: "أن تكون مريضاً" حيث كتبت: (إننا لا نميل إلى معرفة بوضوح ما هو الشعور بالمرض. نحن نقول إننا لسنا على ما يرام، أو لدينا صداع، ولكننا نفتقر إلى مفردات مركزة عن المرض. هناك سبب واحد كبير لهذا: هم المؤلفون الموهوبون الذين لم يكتبوا عن الشعور بالمرض. (.. ) الإنجليزية، التي يمكن أن تعبر عن أفكار هاملت ومأساة لير، لا توجد لديها كلمات لوصف الرعشة والصداع.. ! طالبة المدرسة، عندما تقع في الحب، لديها شكسبير أو كيتس ليتكلم عنها. ولكن حين يحاول مريض أن يصف آلام في رأسه إلى طبيب تجف اللغة ويعجز عن الوصف ".

إذا كنت ممن يتسلح بالكتابة ليواجه (التفكير الصامت بالهموم الموجعة)، والذي يتسبب بـ(استجرار الآلام) ويوقع في (دائرة الاكتئاب)فأنت قد أمسكت بوسيلة تداوي أثبتت نجاحها، فالتداوي بالكتابة للقلوب الموجوعة من أنجح الطرق النفسية وهو بالإضافة لكونه علاجاً مجانياً، أيضاً هو متاح في أي وقت وأي مكان وبسيط، ويكفي أن يكتب الشخص ما يعانيه ويتجاهل تنميق المفردات، فيسرد الأوجاع التي يعانيها وشعوره حيالها، ولماذا شعر بذلك؟ وردّة فِعله الناتجة عن هذا الشعور؟ وإن استطاع فيتكلم بما يكتب بصوت يسمع فيه نفسه إلى أن ينتهي ويفرغ كل ما يجول في نفسه.

قد يشعر بعجز في البداية وهذه مقاومة نفسية طبيعية، لكن بعد أن يكسر الحاجز ويبدأ، سيكتشف أنه كتب أموراً لم يكن يتوقع أن يكتبها وكان يداريها ليس عن الآخرين فحسب بل ربما حتى عن نفسه! فالكتابة تنشط ذاكرته وتجعله يسرد مشاعره أولاً فيفهم تأثيرها على أفكاره وبالتالي سلوكه، وأجمل ما فيها أن طبيبك النفسي يكون بيدك متى ما احتجته ومتى ما أردته، فتتخلص بشكل كامل من الاعتماد على الآخرين، والأهم أن تنتهي هذه الطريقة بتمزيق الورقة لئلا يطلع عليها الآخرون، وهذه الطريقة الناجحة تخبرك أنه: إن لم تكن قادراً على التصدي للوجع بالاستعانة بأحبابك فلا أقل أن تتصدى له بحروفك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كتبته: هند عامر

[email protected]

كلمات البحث
addtoany link whatsapp telegram twitter facebook